رواية مدن الملح : التيه لعبد الرحمان منيف الابعاد الجغرافية و التاريخية والاجتماعية

  كتابة : هشام بنعلي قدور

تعتبر هذه الرواية من الروايات العربية المهمة ، التي تطرقت لجوانب مبهمة من حياة منطقة الخليج، تتجلى أيضا في كونها لا تتناول شخصيات و أحداث وأماكن فقط ، ولكن لكونها وثيقة تاريخية، ذات بعد جغرافي وأخر اجتماعي ، تتكون هذه الرواية من خمسة اجزاء وهي رواية مدن الملح : التيه ورواية مدن الملح : الاخدود ورواية مدن الملح: تقاسيم الليل والنهار،  ورواية مدن الملح: ظلمات البادية، و ورواية مدن الملح : المنبت .
أما موضوع قرأتنا ، فيتمحور حول الجزء  الاول من هذه السلسة وهي رواية مدن الملح : التيه و التي تتكون من 609 صفحة.

تبدأ أحداث الرواية من منطقة صحراوية وهي عبارة عن واحة حسب ما جاء في وصف الراوي ، اسمها وادي العيون ، يصف فيها الاحداث اليومية الروتينية التي تميزها وكذا القوافل التي تمر على هذه الواحة لنقل البضائع و الاخبار و التزود بما يلزم من ماء و المئونة و أخذ الراحة قبل استئناف الطريق.
أبرز الشخصيات التي ظهرت في هذه المنطقة هي ابن راشد و متعب ابن هذال ، وزوجته وضحة وابنيها فواز و شعلان ، وأم خوش التي فقدت ابنها الذي سافر مع أحد القوافل ولم يعد منذ سنوات ، فجن جنونها. تمر الاحداث كما قال الراوي بشكل عادي إلى أن يحضر ثلاثة من الأمريكيين، فتنقلب الامور داخل الوادي ، حيث نظر إليهم بعين الريبة و التوجس، وخصوصا أنهم يتكلمون العربية ويتلون  بعض الايات القرآنية ، فرغم ترحيب ابن راشد بهم وحديثه معهم فإن ابن هذال ظل على العكس من ذلك يتوجس منهم خيفة وريبة . لكنهم لم يلبثوا طويلا حتى رحلوا ليعودوا من جديد بأعداد اكبر، و بدؤوا بعمليات بحث وجمع للمعطيات والمعلومات حول مختلف مناحي الحياة الطبيعية الإنسانية والاجتماعية، ويضعون ما  جمعوه في صناديق، الشيء الذي زاد من ريبة سكان الوادي وخوفهم مما هو قادم ، لكن رغم ذلك بدأ الناس يتقبلون وجودهم باستثناء ابن هذال الذي ازداد يقينا مع مرور الايام أن الأمر في غاية الخطورة لذلك ظل متأهبا دائما لكل طارئ .

بعد مدة، عاد الاميركان مرة اخرى الى وادي العيون للمرة الثالتة ، لكن هذه المرة بمعدات و اليات ضخمة  لم يشهد مثلها الوادي من قبل ، بدأ هديرها الذي يصم الاذان يدوي ، وصارت تثقب الارض بلا توقف ، لم يتقبل اهل الوادي البتة هذا الامر ،  فأرسلوا وفدا للقاء الأمير  ، والحديث معه حول ما يجري داخل الوادي ، لكن ظن ابن هذال من هذا اللقاء قد خاب ، خصوصا عندما اكد له الامير ان هؤلاء الناس جاؤوا لمساعدتهم و ان الخير سينتشر على ايديهم ، كما دعاهم الى عدم ازعاجهم .

رحل متعب ابن هذال في إحدى الليالي عن الوادي العيون ، حاملا معه بندقيته و راكبا على "ناقته العمانية البيضاء"، لم يرى له أثر منذ ذلك اليوم ، لكن ظل الجميع يترقبون ظهوره في أي لحظة من أجل ان يقضي على الشياطين ويدمر آلياتهم. لم يمر على رحيله طويلا حتى تم إعلام أهل وادي العيون بضرورة إخلاء الوادي من كل من فيه لأن الاشغال ستتوسع لتشمل كل نواحيه ، فبدؤوا بنزع اشجار النخيل واحدة تل والأخرى ، حتى لم يبقى منها إلا القليل .

سار الناس يلملمون حاجاتهم و يغادرون ، لم يبقى في الوادي إلا بعضهم و زوجة ابن هذال وضحة وابنتها و ولداها شعلان وفواز و خالهم هذيب و عائلته و ام خوش التي جنت بعد غياب ابنها عنها التي طال سنوات وسنوات ، لكنها توفيت قبل ان يغادروا الوادي .

انطلقت عائلة ابن هذال ، والتي بقى الرواي يتبع مسيرتها ويصف عالمهم و ألم بهم من حزن وغم ، وهم يفارقون ارضهم التي عاشوا فيها سنين طويلة ، حزن كبلهم جميعا خاصة وضحة زوجة ابن هذال التي ظلت تتساءل عن سبب غياب زوجها المفاجئ لماذا تركهم وحدهم في مثل هذه الظروف ؟ . وصلت عائلة ابن هذال الى منطقة " العجرة " حيث يتواجد اقارب لهم هناك بعض ايام طويلة من السفر مروا خلالها بعدد من المناطق الاخرى ، حيث استقروا هناك . وبدأ ابناها شعلان وفواز يفكران في السفر بحثا عن أفق جديد ، في تلك الاثناء ظهر "خوش" الذي غاب عن أمه طويلا لم تره ، رغم أن ذلك ما كانت تتمناه قبل موتها . عاد وعاد معه الامل بأن ترى زوجها متعب ابن هذال من جديد ، فتزوج من ابنتها مما خفف عنها شيء من وطئت الالم والحزن . عاد شعلان بن متعب إلى ودي العيون للعمل هناك مع الامريكان الذين كانوا في حاجة الى عمال في تلك الفترة ، بعد مدة لحق بهم به اخوه فواز و ابن خاله صويلح الذي كان يريد ان يبني مستقبله مع فتاة احلامه التي خاف انه اذا لم يحصل على العمل و ثم المال فإنها ستضيع من بين يديه ، لكن سيتم رفضهما من طرف ابن راشد على اعتبار ان الاول فواز مازال صغير السن والثاني صويلح لأن عينه فيها شيء من الحول مما اضطرهما الى العودة اللى العجرة في انتظار فرصة اخرى .

بعد شهرين حمل الشابين زادهما وركبا ناقتيهما وتوجها من جديد نحو واد العيون ، وقد خطرت لهم فكرت التوجه الطريق السلطاني ومن ثم التوجه نحو الشام ، لكن لقائهما مع ابن راشد  غير كل شيء إذا طلبهما من اجل العمل مع الاميريكان في منطقة حران الساحلية ، حيث بحاجة إلى يد عاملة بشكل ملح مما اضطره للقبول بهما وخدهما إلى هناك ، رغم أنه رفضهما في وقت سابق.

في بلدة حران حيث تدور اكثر احداث الرواية ، ركز الراوي في هذه المرحلة وصف العلاقات الاجتماعية داخلها ووصف التحولات التي طرأت على هذه البلدة منذ مجيء الامريكان ببواخرهم الضخمة التي لم يرى هؤلاء البدو مثلها من قبل ، حيث قام الامريكان ببناء مجموعة من المساكن لهم وتم هدم مباني القديمة لحران ، ما عدا المسجد الذي ضل ثابتا في مكانه فانقسمت بذلك البلدة الى قسمين حران العرب و حران الامريكان هذه الاخيرة التي تم تسييجها بمجموعة من الاسلاك الشائكة ومنع العرب من الدخول اليها ما عدا القلة القليلة من الفئة المختارة كابن راشد و امير حران.

و على اثر ذلك فقد ظلت البلدة تتطور وتكبر يوما بعد يوم ، وتفد اليها وجوه جديدة من العمال البدوا الذي تلفظهم الصحراء القاحلة او ترميهم قوارب الخشبية الصغيرة من جهة البحر ، من ضمن توافد ابنائها القدامى الذين غادروها منذ سنوات طويلة و ابرزهم الدباسي ، وغيره ممن عاد للبحث عن فرص قد تتيحها الوضعية الجديدة التي صارت عليها البلدة حتى الامارة لم تسلم من هذا التغيير حيث غادرها اميرها الاول الذي لم يتردد عل حران كثيرا و كان يفضل حياة البداوة و الصحراء على الوضع الجديد و يحمله من مفاجئات يومية.

بني ميناء حران وربطت البلدة بالطرق المعبدة مع باقي المناطق ، مرت انابيب البترول وعوضت الجمال و الحمير بالسيارات الجديدة ، وزادت وثيرة الداخلين إلى البلدة ، ومنهم الدكتور صبحي المحملجي و مساعده محمد عبد ، كل هذه التغيرات دفعت ولي العهد لزيارتها قصد الاطلاع على ما تم تحقيقه فيها من انجازات مهمة .

البعد الجغرافي :

المنطقة التي تدور فيها احداث الرواية، تنتمي إلى النطاق الصحراوي الجاف ، تتخلله مجموعة من الواحات التي تؤثث المشهد الطبيعي لذلك المجال . وهو مجال ايضا غني بموارده الطبيعية الجوفية، وخصوصا الغاز والبترول، حيث أدى اكتشافه إلى تغيرات على المستوى الاقتصادية و الاجتماعي، فالتغيرات و التحولات الاقتصادية تبدوا جلية داخل الرواية، تجلى ذلك في ظهور البنية التحتية متمثلا في شق الطرق ، وتعويض السيارات للجمال ، بروز مرافق اجتماعية جديدة كالمستشفى و المدرسة ، والمرافق الادارية متمثلا في دار الامارة و مركز الشرطة .
هذه المتغيرات خلقت نوعا من القلق والحيرة لدى ساكنة المنطقة ، ما بين راغب في الحفاظ على الماضي، وما بين مدافع على التغيير و مزاوج بين الماضي والحاضر.
 البعد التاريخي :

تدور احداث الرواية إبان بداية اكتشاف البترول في شبه الجزيرة العربية في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، حيث كانت معظم الامارات الخليجية مازالت في طور تجمع والتوحيد، كالمملكة العربية السعودية.
البعد الاجتماعي :

كان المجتمع العربي في تلك المنطقة ، حسب الرواية يرزح تحت وقع صدمات ثقافية قوية تتجلى في اصطدام المجتمع البدوي مع الامريكان الذين جاؤوا لتنقيب عن النفط ، وهو ما ظهر جليا مع تطور أحداث الرواية ، حيث صاغت الشخصيات عبارات تدل على ذلك وجاءت في صيغ الاندهاش والتعجب :
- التعجب من الامريكان الذين يتكلمون العربية و يتلون ايات من القرآن.
- الاندهاش من طريقة بحثهم وجمعهم للمعطيات و المعلومات و تخزينها في صناديق .
- الاندهاش من الالات "العجيبة" و"الشيطانية" التي جاء بها الامريكان لوداي العيون .
- الاندهاش من سفنهم الضخمة وطرقهم المحكمة و المنظمة في التسيير والتدبير.
- من تفسخهم الخلقي خصوصا مع مجيء سفينة محملة بالنساء الشقراوات الجميلات شبه العاريات .
كانوا يفسرون كل ما يقوم به هؤلاء ، بما يمتلكونه من خزان معرفي وثقافي محلي ، وذلك باعتبار ما يقوم به هؤلاء يندرج في إطار السحر والشعوذة.


تعليقات