مسلسل "See": عندما يكشف الخيال هشاشة الحضارة
في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التقدّم التكنولوجي، وتُغرقنا صور السيطرة البشرية
على العالم، يأتي مسلسل See ليقلب الطاولة، ويطرح سؤالًا بسيطًا في
ظاهره، عميقًا في جوهره:
ماذا لو فقد البشر حاسة واحدة فقط؟ هل يمكن أن ينهار كل ما
بنيناه؟
هذا العمل الدرامي، الذي يستند إلى خيالٍ مستقبلي مظلم، يعرض عالماً فقد فيه الناس حاسة البصر، فانهارت معه الحضارة بأكملها، وعاد الإنسان إلى حالة بدائية تحكمها الغريزة، القوة، والخرافة.
الحواس والمعرفة: البصر كبوابة للحضارة
منذ فجر الإنسانية، كانت الحواس وسيلة الإنسان لإدراك العالم من حوله. وقد أكد الفيلسوف جون لوك أن كل معرفة عقلية إنما تنبع من التجربة الحسية. فالبصر ليس مجرد وسيلة لرؤية الأشياء، بل هو أداة للتمييز، التحليل، وتكوين المعاني.
في See، يؤدي فقدان البصر إلى غياب القراءة، والكتابة، والعلوم، والفنون. كل ما يرتكز على الصورة والرمز والتوثيق ينهار. البشر لا يعودون قادرين على تخزين المعرفة ولا نقلها، فيحلّ محل العلم الخرافة، ومحل الحوار العنف.
بين روسو و"See": الإنسان حين يعود إلى الغابة
الفيلسوف جان جاك روسو اعتبر أن الإنسان في حالته الطبيعية كان بريئًا ونقيًا، وأن الحضارة هي التي أفسدته. لكن See يعرض صورة معاكسة تقريبًا: عندما تنهار الحضارة، لا يعود الإنسان إلى البراءة، بل إلى الهمجية.
الحضارة في هذا السياق تظهر كقشرة رقيقة تغطي وحشية الغريزة. وما أن تسقط إحدى ركائزها، حتى يكشف الإنسان عن وجهه الأول: القتال من أجل البقاء، الخضوع للزعماء، التمسك بالأسطورة.
انعكاسات على واقعنا المعاصر
قد يبدو هذا مجرد خيال تلفزيوني، لكنه في العمق مرآة لواقعنا. جائحة كوفيد-19 مثلًا، عرّت هشاشة العالم المعاصر: مستشفيات تنهار، أنظمة تعليم تتوقف، وسلاسل إمداد تتفكك... كل ذلك بفعل فيروس لا يُرى بالعين المجردة.
فكيف سيكون الحال لو تعطلت إحدى الحواس، أو اختفت وسائل التواصل كما نعرفها اليوم؟ ماذا لو عجز الإنسان عن السمع، أو لم يعد قادرًا على نقل المعرفة للأجيال القادمة؟ إن الاعتماد المطلق على التكنولوجيا قد يُعمي البصيرة، ويجعل الحضارة أكثر هشاشة مما نتخيل.
خاتمة: البصر أم البصيرة؟
مسلسل See لا يحكي فقط عن عالم بلا عيون، بل عن عالم بلا وعي. يخبرنا أن الحضارة ليست في الخرائط الرقمية ولا في ناطحات السحاب، بل في قدرتنا على الإدراك، وعلى تحويل الحواس إلى معرفة، والمعرفة إلى وعي جماعي.
إن البصر الذي نفقده في المسلسل هو رمز لكل ما يمكن أن نخسره في لحظة:
المعنى، والاتصال، والذاكرة. وربما يكون السؤال الحقيقي الذي يطرحه العمل
هو:
هل نحن نرى حقًا؟ أم أننا نعيش في وهم الرؤية بينما نفقد جوهر الحضارة
شيئًا فشيئًا؟
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقك حول الموضوع